لا نعرف تاريخاً مضبوطاً لبداية استخدام الرخام القمَري كأداة إضاءة المباني .
ولكنه يبدو من الواضح أن ذلك التاريخ سبق بناء غمدان ، القصر الناطح للسحاب الذي شيده ملوك دولة سبأ منذ 1800 عام . وصف المؤرخ الحسن بن أحمد الهمداني قصر غمدان بقوله
يسمو إلى كبد السماء مصعداً |
|
عشرين سقفاً سمكها لا يقصر |
ومن السحاب معصب بعمامة |
|
ومن الرخــام منـطّـق ومؤزّر |
كان أشهر ما في مبنى قصر غمدان غرفة تعلوه ، يتكون سقفها من لوح كبير من القمري الصافي . وقيل إن شفافيته البالغة تسمح للناظر بأن يميز بين أشكال الحداء والغربان وهي تحوم فوقه . ولعل هذه القمرية المشهورة أوجدت روح المنافسة في قلوب الأحباش الذين احتلوا اليمن في القرن السادس الميلادي ، حين أدخلوا لوحاً قمرياً مربعاً عملاقاً حجمه 5م في 5م في سقف "القليس" ، الكنيسة التي بنوها في صنعاء .
ما زالت آثار هذه المباني العظيمة مدفونة تحت مدينة صنعاء . أما أقدم نوافذ قمرية تظهر للناظر اليوم ، فهي لا تبعد عن موقع غمدان إلا بمقدار رمية حجر، وتتمثل في عدد من الألواح ذات السطوح المنقوشة أدخلت في سقف مسجد صنعاء الجامع (المعروف بالجامع الكبير) بغرض إضاءة محرابه ، وقد سوّدها مرور الزمان والإهمال وأطبقت عليها من الخارج طبقة من النورة . والمحتمل أن تاريخها يعود إلى أوائل القرن الثامن الميلادي .
لم يقتصر المعماريون على استخدام القمري في القصور والمساجد فقط . وفي كتابه "صفة جزيرة العرب" وتحت العنوان "عجائب اليمن التي ليس في بلد مثلها" ، قال الحسن بن أحمد الهمداني واصفاً دور صنعاء في بداية القرن العاشر الميلادي إن "لا يتغير ضياء البيت لأجل الرخام الذي يكون في الجدرات والسقف . . . وتؤدي الرخامة لمعان الشمس إلى القصة [أي إلى سطح الجدران المجصصة] فتقبلها بجوهرها وبريقها ."
وكان البنّاؤون يُدخلون كذلك ألواحاً مدورة من القمري في القباب التي تعلو الحمامات العامة ، فأصبحت هذه القباب تشبه ، حسب قول أديب مولع بالاستحمام تحتها ، سماءً كثرت فيها الأقمار .
في الوقت الذي كان الأوربيون ينظرون فيه إلى النوافذ المزججة ككمالية نادرة باهظة الثمن ، كان اليمنيون قد وجدوا حلاً لمشكلة الإضاءة – وذلك الحل من تحت أرض بلادهم .
دام استخدام القمري بلا انقطاع حتى الخمسينات والستينات من القرن الماضي . وفي ذلك الوقت ابتدأ انفتاح اليمن الاقتصادي ، المصحوب بانخفاض أسعار المستوردات الخارجية . فلم تقدر حرفة القمري ، التي لا يمارسها أصحابها إلا ببذل جهود جسدية ومادية مكلفة جداً ، على الوقوف في وجه الزجاج الدخيل الرخيص ، فأصبحت أقمار اليمن مهددة بالخسوف النهائي .
كان يبدو أن ضوء القمري ، ذلك الضوء الساحر المستخرج من باطن الأرض ، لن ينشر بريقه الفاتن ثانية . إلا أن حرفة القمري لم تفتقر إلى من يدافع عنها – وهو عبد الوهاب الصيرفي ، الذي كان أجداده أشهر من يعمل القمري في اليمن منذ العصور المنصرمة ، والذي بدأ في منتصف التسعينات في إنقاذ تراث سبأ المعماري من الانقراض وإحيائه من جديد .
نشارة القمري بصنعاء عام 1937 م